كان بينيدكت آرنولد جُندياً ممن شاركوا في الثورة الأميركية في القرن الثامن عشر، حيث وثق به الجميع واعتبر وطنياً مخلصاً حاملاً لآمال أُمّته وشعبها، الأمر الذي جعل القيادة الأميركية تمنحه لقب جنرال وينظر له الجميع كبطل حرب ورمز وطني تفتخر به الأُمّة، ولم يَدُر بخَلَدِ أحد أن هذا الشخص كان قد باع ذمّته وضميره، وفوق ذلك وطنه، للعدو البريطاني، إذ تفاجأ الكل بأنّ هذا الخائن قد أبرم خطّة للقوات المعادية للدخول من ميناء نيويورك لضرب قوات بلاده من الخلف، لكن باءت خطته بالفشل وهرب تحت جنح الظلام إلى أسياده الذين باع وطنه من أجلهم، لكن البريطانيين احتقروه أيما احتقار، فكيف يمكن الثقة بشخصٍ قلّدته بلاده أرقى المناصب ثم يغدر بها عندما احتاجت إليه! فمن خان بلده وأهله سيخون غيرهم بالتأكيد، فخرج يجر أردية الذل والهوان حتى مات فقيراً مُعدماً في إحدى القرى الكندية! أحاول أن أجد كلماتٍ تصف الغُصّة التي أشعر بها فلا أجد، فكل المفردات يبدو أنها تستحي أن تصف ما جرى من سقوط أقنعة الخونة، أو أن تذكر تلك الخناجر الغادرة التي أُشهِرَت لتطعن بلادها -والتي لم تُقصّر حيالهم- في مقتل عندما كانت تنتظر منهم وقفة مُشرّفة تشد كيان المجتمع وترأب صدعه وتوقف المتطاولين عليه عند حدّهم، لكن تأبى القلوب السوداء إلا أن يكون فعلها أسود مثلها، وتأبى النفوس التي تشبّعت بنسج المؤامرات والمكائد إلا أن يكون نتاجها نتناً مظلماً يكره نور الشمس وتكرهه، وتأنف منه أخلاق الكرام وأصحاب الضمائر الحيّة. كان بمقدور زايد رحمه الله تعالى أن يبقى حاكماً لأبوظبي، مُنعّماً بثروات النفط الهائلة لوحده ولمن هو مسؤولٌ عنهم، لكنه أبى أن لا يَعُمّ ذلك الخير على من حوله، فلم يترك مدينةً إلا ورحل إليها، ولا قبيلةً إلا ويمّم شطرها، ولا فجّاً إلا وسلكه، لم يمنعه من ذلك هجير نهارات الصيف اللاهبة، ولم تفُتّ في همّته ثارات القبائل وهجمات المُغيرين وشُذّاذ الناس، ولم يصخ بأذنيه لمن كان ينصحه بأن يحتفظ بالخير لنفسه وأن يدع الآخرين ليعالجوا مشاكلهم لوحدهم، فقد قالوا له كثيراً: عليك بنفسك يا زايد، تنعّم كما يتنعّم الملوك ودع الآخرين فلست مُكلّفاً بإصلاح العالم، لكنه رفض كل تلك الدعوات ذات الأفق الضيّق، فلم يكن ليرضى أن يعيش مُنعّماً وحوله إخوةٌ له يُعانون قسوة الحياة ولأوائها، ولم يكن ليقبل أن يستأثر بالثروات وهناك من جيرانه من لا يجد ما يسد به رمقه أو يستر به عُري ظهره، ولم يكن ليستريح هو وقومه في أمن وسلام وهناك إخوةٌ له تتناهبهم هجمات قطّاع الطرق وتعدو عليهم أنياب الطامعين! ارتحل كثيراً رحمه الله وعانى كثيراً وتغاضى برحابة صدره عن الكثير من المنغّصات ومن بعض الظنون الجائرة والتُهم المعلّبة من بعض صغار العقول، لكنّه لم يهتم ولم يغضب من أجل نفسه، وسعى فشكر الله سعيه، واجتهد فأثاب الله جُهده، وتَعِبَ فلم يذهب تعبه سُدى، فوحّد الإمارات بعد فُرقتها، ولمّ شتات القبائل بعد تناحرها، وألّف بين القلوب وصفّى ما بين الأنفس، فأصبح خصمُ الأمس أخَ اليوم وأضحت الأيدي التي كانت تتعارك بالأمس تتساند اليوم لبناء وطنٍ تفخر به ويفخر بها، فعمّم رحمه الله بفضل ربه سبحانه الخير على كل تراب الدولة، وبذل ما يطيق وما لا يطيق من أجل أهله وشعبه وأبنائه، وحازته كل القلوب بالحب والعرفان لما فعل من أجلهم، فأصبح من المعتاد أن تسمع أحدهم يقسم بـ"رفجة زايد" لعلوّ مقامه في النفوس، بذر الخير فكان نتاج ما بذر خيراً مثله، وضحّى بوقته وصحته وماله من أجل شعبه فكانوا حسب ما يريد ووفق ما يطمح له. ورحل زايد في تلك الليلة الحزينة، وبكت حبّات الرمل قبل أن تتساقط عليها دموع الناس، ونبتت في القلوب غُصّة لا زلنا نجدها حتى اليوم لفراقه رحمه الله، وكم آلمنا أن نقرأ مزاعم لبعض كُتّاب الصحافة الصفراء بأن الإمارات ستعود للتمزق كما كانت بعد رحيل ذلك القائد الذي لا تجود بمثله السنون، ولكن يأبى الله أن تسقط رايةٌ قامت على صفاء أنفس وحُسن نيّة وصلاح سريرة: "فأما الزَبَدُ فيذهبُ جُفاءً و أمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". لقد حمل الراية من هو جديرٌ بها، ومن هو أهلٌ لأن يُبقِ إرث زايد ونهجه حيّاً لا تشوبه شائبة، فسار صاحب السمو الشيخ خليفة، حفظه الله تعالى، على خُطى أبيه، القلب المُحب لشعبه ذات القلب، واليد التي لا تعرف إلا العطاء والبذل هي نفس اليد، فبقى الوطن شامخاً وبقيت أركانه راسخةً رسوخ الجبال الشُمّ. لكن تأبى بعض النفوس إلا أن تظهر على حقيقتها، فبعد أن خرجت تلك الفرقة المارقة ممن ينادون بالخير وهم منه براء، ويدندنون بحقوق الناس وهم أول من سلب أبسط حقوق الناس بمحاولاتهم لهز الاستقرار وبث الذعر بين البيوت الآمنة، ويدّعون التديّن لكنه لا يعدو أن يكون تديّن من قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهمُ من الرّميّة"، فخابوا وخسروا وانكشف خبث طويّتهم وسوء مسلكهم، فماذا يريدون وقد قلّدت الدولة الكثيرين منهم أرفع المناصب وبدل أن يرد الجميل لبلاده إذا به يطعنها على حين غِرّة، ويدين بالولاء لغيرها ويفني ساعات ليله المظلم كقلبه في حبك الأحابيل وتدبير المؤامرات لا لأعداء بلده والمتربصين بها وبأهلها الذين هم أهله، ولكن يكيد مكائده الآثمة ضد أهله الطيبين وتراب بلاده الطاهرة، أفهكذا تردون جميل بلادكم لكم أيها "المُصلحون"؟ أترون الغدر إصلاحاً والتآمر على بلدكم وأهلكم عَدلاً وبث الفرقة والنعرات بين الناس مواطنةً حقة؟ ألا إن للصبر حدّاً وللحكمة فاصلاً وللطيبة خطّاً أحمر، فدولتنا أولى بالحماية من أشخاصٍ لم يراعوا فيها إلاً ولا ذمة، وكياننا الكبير أحق بالخوف عليه ومراعاته والعمل على بقاء وحدته وتماسكه من منح الفرص وانتظار أن يعود الخائن إلى رُشده، فدموعهم الكاذبة لن تُنسِنا مؤامراتهم ووعودهم الزائفة لن تُغِيب عن بالنا كم غفرنا لهم وعادوا أسوأ من ذي قبل، ولست أرى للعاطفة من مكانٍ ولا للتغاضي من فائدة ولا لمنح فرصٍ جديدةٍ من طائل هنا فقد بلغ السيل الزُبى، وكما قال أجدادنا في مثلهم الحكيم: " اللي ما تيبه عصا موسى تيبه عصا فرعون"، فالذين يبيعون أوطانهم لا وطن لهم!